أبابيل أكاديمي :: / مقالات أدبية /
- دراسة نقدية -
((عتمة الغرق في الألم وجذوة شراكة الفهم ))
البحث والفهم منذ وجدا يقود احدهما للآخر .يبحث المرء ليفهم .ولن يفهم دون بحث .هما سبب ونتيجة .فبسبب البحث نفهم . الفهم عبارة عن ايجاد واستحصال والبحث هو طريق ومسلك يفضي اليها . كانت تلك فكرة بسيطة عن البحث والفهم .وغاية مشروعة ان يجري المرء بحثا عن من يفهمه وقد تطابقت هذه الغاية المشروعة بدرجة عالية جدا مع عنوان النص الذي ندرسه الآن نقديا والذي يحمل عنوان - أبحث عن من يفهمني - للشاعر العراقي والأديب صلاح ألسلطاني - تمنياتنا له بالتوفيق وعظيم الابداع . يتسائل الشاعر في مطلع قصيدته متذمرا مما في ذاته ومما هو خارجها مقرا ببلوغه مرحلة فاقت حد التصور فان يمل الانسان من كل شيء فذلك يعني فقدان اي ارتباط واي انجذاب نحو الاشياء وأن يكره الانسان نفسه فتلك عتمة على مرآة الذات بحيث لايطيق النظر في مرآة الذات لصعوبة تمييز معالمها ولتداخل احاسيسها وتشابك انفعالاتها لدرجة انها تتعب من يتأملها ويصاب بالجهد والأعياء الذي يزيد بدوره من عتامة الصورة وسوداوية احوالها مما يؤدي للكره والنفور من تأمل معالم صورة ما في لجة العتمة وعدم الوضوح وقد تناولها الشاعر قائلا :
لست ادري مافعلت
وكان كل مايعتريني
من حياتي تعب
مللت كل شيء
كرهت نفسي ويواصل الشاعر سرد مايشعر به في فورة الالم ويعلن تمرده على ذاته لدرجة انه يطلب الموت لها فلايجده ومااقساه ذلك الشعور بالألم الذي عبر عنه الشاعر قائلا :
من مماتي يئست
احساسي
.... .... .... ....
!!!! !!!! !!!! !!!!
جفاف
كان احساسه لاهبا كالصيف في بلاده
وكان الجفاف المعني بالنص هو انعدام وجود ما يرطب ذاته ومايداخلها لأنه عكس الجفاف المطر فالذات الممطرة هي الذات المخضرة على الدوام وشتان بين ذات ماطرة مخضرة وبين ذات جافة متصحرة متعطشة للحب كتعطش البيداء للقطر .ويترابط وصف الشاعر لتلك الذات التي جفت وتصحرت ويصف جفافها قائلا :
كدمعاتي
فلأن الدمعات تنزل من الاعلى للأسفل على شاكلة المطر لكنها سرعان ماتجف ولا تصمد لتبلغ الارض بل تتلاشى في الطريق على الخدين. فكان يصف اي احساس مطري جديد يخالجه على شاكلة دمعاته التي تجف وتتلاشى في الطريق قبل بلوغها الارض.
ومن عتمة الشعور الى عتمت الموت التي طالت الغرائز واي غريزة طالها الموت؟! دون ان نبذل اي مجهود بالتقصي عنها فأيمائاتها في اول النص موجودة .فالغريزة الاولى التي طالتها عتمة الموت هي غريزة حب الحياة التي عبر عنها الشاعر في بداية النص (من مماتي يئست ) فكانت هذه الصورة تتمة لتلك واضاف اليها الشعور بأستقالة الشهوات ومفهوم الاستقالة يختلف تماما عن فكرة الموت فالموت حجب وعتمة وفناء بينما الاستقالة تكون بالتوقف عن الاعمال طواعية وتلتقي كلا الصورتين عند محور اليأس والتجمد وبرودة جميع اصقاع الذات التي انهكها شتاء البحث. ويجسد الشاعر ذلك قائلا :
غرائزي ماتت
واستقالت مني شهواتي
ومن برودة شتاء اليأس الذي من اثره بردت شهوات القلب وتجمدت واستقالت من اعمالها على ارضية يصفعها البرد بكل قسوة وتجلدها رياح الضباب دون ما رحمة .فمن ذلك البرد ينذهل الموت لشدة التوقف ينذهل الموت لقوة تماسك ثلوج اليأس على ارضية الذات لكن ذلك الشعور البارد المنجمد الذي يشبهه الشاعر بالموت حين يستحوذ على الذات وقبل ان يتملكها بالكامل يواجهه ثورة في الذات تحيل ثلوج اليأس جمرا من حرارة الحزن ويستحيل الصدر مجمرة والانفاس لهيب حسرة تحرق الشتاء في ذاته وتتصادم غيوم المشاعر فتزفر صواعق محرقة من انين يحطم اهرام القلب ويهد قلاعه المتعالية هدا وتنتشر الآهات مثل المطر بل هي كالبركان حين ينشر الحمم .محرقة ذاتها وكل ذات هي فيها وعليها في مشهد امتزج به شتاء يأس منجمد وصيف تمرد لاهب في مناخ نفسي جمع كل انواع المشاعر في فوضى يستحيل لصاحبها ان يعلم لها رأس من عقب وقد وصفها قائلا :
ألموت في ذهول
حين اقترب
اكتوى بجمراتي
أنفاسي اللهيب
وفي زفيري صواعق
تبث آهاتي وتستمر فوضوية ذلك المناخ النفسي الغامض المعالم لينتقل الشاعر من الداخل الى الخارج فهي قفزة للحزن من النفس الى الجسد ولأن الحزن لايبدو مبررا او مشروعا لدى الكل لذا كان لزاما له ان يتنكر وقد راق له ان يرتدي الشفاه ويأخذ شكل اتسامة تزهر للناظرين وتشرب من الم الذات التي تتجذر فيها ويتم ذلك بشهادة اخرة لآلام تستوطن الاحساس ومااصعب الابتسامة مع الاحساس بالألم وكان التنكر للألم بقناع الابتسامة لأن الألم كان يتسيد المشهد ويملأ اطراف لوحة الشعور قبل التجلي والظهور وتنهال الشكوى من وجع الشعور فيصفها الشاعر بالمهولة في مقام التجلي والظهور لأنه من الصعب ان يتخيل المتلقي ألم احساس لم يختبره لكن من السهل ان يتصور امرا مهولا فالصورة ايسر من محاكاة شعور وقد تناولها الشاعر قائلا :
وحزن متنكر من شفاهي
أرسم البسمة
والآلام تستوطن احساسي
وأسبغ فوقها من ضحكاتي
تؤلمني مشاعري
مهولة كانت معاناتي
وينطلق بنا كاتب النص من التفاصيل الكبيرة الى الصغيرة في مشهد العتمة والشكوى والتذمر فيوضح دقائق الصورة ومعالمها قائلا:
الكل يهجوني
يلوموني
ويعاود ذكر استجابة سلبية كانت له تجاه مايناله منهم فكان يقابل صراخهم بالصمت لأن كل احساس حين يقابله نقيضه يقع التوازن وتتضائل سرعة الشعور وبالتالي تقل سرعة تدفق الحزن والعتمة .ولو قابل اللوم باللوم لتفاقم الامر لكنه اتخذ من الصمت ردا وقد ترسخ في الصمت حتى اصبح ارسخ عادة ازاء صراخ الملامة من خارج الذات او داخلها وقد يكون الصمت اعظم ملامة فما كان للشاعر الا اللوذ بالصمت ردا على الصمت وأكدها قائلا :
فألوذ لصمتي
أرسخ عاداتي
ليشهد لنفسه مرة اخرى قائلا :
لم الم يوما احد
رغم اجاج الملح
في امواج صهواتي
فترى تتابع صور اللوم والملح والصهوات وحين نبحث وجه الترابط فيها نجد ان اللوم محرق للذات ومذيب لعناد الذات ومكابراتها وكذا الملح مذيب لكل منجمد والصهوات كذلك هي تكون على ظهور الخيل وهي تذيب حيرة الجلوس لدى راكب الفرس فلايحير بجلوسه ويذوب اضطرابه وتردده ان اراد اعتلاء الجواد فهذه المتتاليات الثلاث كلها مذيبات وكل يمثل حال فاللوم مذيب للنفس والملح مذيب للجسد والصهوة مذيب لشعور الحيرة والاضطراب والتردد.
ويتجه الشاعر بنا الى موجيات حزنه الذي بلغ بذاته حد الغرق وعبر عنه قائلا:
مغرق بالحزن من يعتليها
لأنه لاطاقة لأحد ان يعوم على امواج حزن كتلك الامواج وفي ذات الوقت يحافظ على توازنه على السطح والواجهة الخارجية .ثم يواصل تشبيه مرارة حزنه بالعلقم الذي مرارته تصيب الذائقة وهو تحت الاقدام فيالعظمة المرارة التي وصفها الشاعر بقوله :
حيث علقم مراراتي
ثم تتدفق علينا مشاعر التوجع والاحباط عبر تلك الوصفيات التي يذكرها الشاعر قائلا :
مكبوت انا
وكل من ينجدني
يزيدني من عثرة
وكبوة يضيف لتاريخ كبواتي
يبدد لي مزيدا من طموحاتي
يخالج القلب يأسا
ولأن توازن الاحساس بالأشياء مطلوب لكي يواصل الشاعر رحلته في عالم الاحساس والوعي بالاشياء والشخوص والاحداث لذا كان للأمل حضورا ولو في ذروة الغرق والفقدان لكن جذوة الأمل كان لها حضورها في قاع البحر حيث الحطام لتقابل نار البحث عتمة مياه الغرق ولتواجه تلك النار البسيطة تلك العتمة المحدقة لتواجه مصيرها بمنتهى الشجاعة ولاتحيد عن هدفها حتى الموت والانطفاء او تبلغ طوق النجاة في متاهة الحطام.وقد وثقها الشاعر قائلا :
لكنني مازلت ابحث
في حطام البحر
عن طوق نجاتي .
وبعد ان انهينا تحليل فكرة النص نتجه لألقاء نظرة سريعة على معالم فكرته ومضمونه واول مانبتدأ به مشروعية الاحساس فكانت الفكرة سائغة ان يبحث المرء عن من يفهمه .ايضا نجد النص مليء بالتشكي والتوجع والاحتجاج ووصف دقائق الألم وكانت الحروف تصرخ من الحزن وكان للسطور عويل كألثكالى في عتمة الليل وينهي الكاتب نصه بمتضادة اليأس والأمل التي منها يرتبط آخر الموضوع بأوله الذي كان البحث عن من يفهمه بداية والبحث عن طوق نجاته في المنتهى. لنستشف فكرة هلاك المرء بفرديته وجوع المرء وظمأه لمن يشاركه احساسه فكان الذي يفهمه وطوق النجاة واحدا في العمل فهذا ينتشله من عتمة الوحدة وذاك ينتشله من الغرق في حزنه ونفهم منه ان الشعور بالوحدة هو الموت والغرق وان شراكة الاحساس والفهم والتفهم هو طوق النجاة وجذوة الأنس . ونعود لتقييم النص من خلال مفرداته التي كانت بسيطة وليس به مايجهد القارئ مابين المعاجم وقد وفر على القارئ ذلك المجهود .من جهة اخرى نرى ان الشعور بالحزن هو امر عام لكن الكاتب احترف الاحساس بالحزن حتى وجدنا العويل في حرفه والنوح في السطور ومع سلبية التقديم لكن يحسب له اخضاع حروفه لقضية الحزن وتطويعها لوصف عتمة الحزن وامواجه .لكن يبدو لنا ان الامل لم يك شعورا اصيلا مرافق للحزن والعتمة في ذات النص بل يبدو الامل وكأنه اقحم عنوة لغرض توازن لوحة الشعور المرتسمة في هيكل النص. ايضا نجد الامل ضئيل جدا ازاء جبال الحزن الرهيب لذا كان كفة التشاؤم لها الرجحان وكانت قلة الامل تكاد تضيع مابين وفرة الأحباط لكن الكاتب اراد للأمل وجودا ولو بشكل ضئيل كي لا تكون الفكرة بطعم واحد واحساس واحد وكان هذا الامل الضئيل بمثابة الملح للنص وليبرز من خلاله احساسا آخر برغم ضآلة وجوده لكنه سيغير الكثير من المعالم وقد تنتصر القلة على الكثرة كما هي غلبة الملح على الماء في الطعام فقد يكون ارادة الكاتب بهذا الأمل الضئيل سينتصر على اليأس بجذوة تزيح جبالا من العتمة .
امنياتنا لكاتب النص الشاعر الاديب العراقي صلاح السلطاني بمزيد من التألق والابداع والتوفيق وكان هذا هو نصه الذي تناولته عبر دراستي النقدية :
((أبحث عن من يفهمني ))
لست ادري مافعلت
وكان لي مايعتريني
من حياتي تعب
مللت كل شيء
كرهت نفسي
من مماتي يئست
احساسي
....... ....... .......
!!!! !!!! !!!! !!!!
جفاف
كدمعاتي
غرائزي ماتت
واستقالت مني شهواتي
الموت في ذهول
حين اقترب
اكتوى بجمراتي
انفاسي اللهيب
وفي زفيري صواعق
تبث آهاتي
وحزن متنكر من شفاهي
ارسم البسمة
واﻵلام تستوطن احساسي
واسبغ فوقها من ضحكاتي
تؤلمني مشاعري
مهولة كانت معاناتي
الكل يهجوني
يلوموني
فألوذ لصمتي
ارسخ عاداتي
لم الم يوما احد
رغم اجاج الملح
في امواج صهواتي
مغرق بالحزن من يعتليها
حيث علقم مراراتي
مكبوت انا
وكل من ينجدني
يزيدني من عثرة
وكبوة يضيف لتاريخ كبواتي
يبدد لي مزيدا من طموحاتي
يخالج القلب يأسا
لكنني مازلت ابحث
في حطام البحر
عن طوق نجاتي.
ضع تعليقك او رأيك هنا :